الأربعاء، 27 مايو 2009

الأخلاق الواجب


الواجب

إن التجربة الأخلاقية تكشف مدى خضوع جل السلوكات الإنسانية لمجموعة من القيم والمبادئ التي توجه وتحدد مجمل التصرفات الإنسانية رغم أنها تتعارض أحيانا مع رغباتنا وإراداتنا ومصالحنا. فالواجب الأخلاقي يحضر في كل تصرفاتنا، ويشكل أساس كل القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية….ويضفي عليها طابع الضرورة والإلزام، كما أنه يعطي للفعل الإنساني معنى.

فماذا نعني بالواجب الأخلاقي؟وما الذي يمنحه صفة الإلزام والإكراه؟ومن أين يستمد الواجب سلطته؟ ثم كيف يتم الوعي بهذا الواجب؟وأخيرا ما علاقته بالمجتمع؟

01 ــ ما الواجب؟
يدل مفهوم الواجب على ما ينبغي القيام به مما يطرح مشكلة علاقته بكل من الإرادة والحرية والوعي.
يرى الفيلسوف الألماني كانط أن الواجب التـزام عقلي حر،نقوم به بدافع الإرادة الطيبة من جهة،وامتثالا لمقتضيات العقل الأخلاقي العملي(العقل المشرع) من جهة ثانية.إنه لا يخضع للميولات الذاتية ولا إلى المصالح الفردية،و لا إلىأية قوة خارجية.يقول كانط"إن التجربة الداخلية والشعور الأخلاقي لايتولدان إلا بواسطة صوت العقل الذي يخاطب كل شخص بكل وضوح، وعليه فإن كل إنسان يجد في عقله فكرة الواجب ويرتعب حينما يسمع صوته المدوّي كلما استيقظت فيه بعض الميولات والنوازع التي تدفعه إلى انتهاكه"
إن الواجب الأخلاقي حسب كانط أمر قطعي ومطلق وغير مشروط بأية ميول ورغبات أو نتائج نفعية عملية.
إن هذا التصور الكانطي للواجب الأخلاقي لقي نقدا شديدا من طرف فلاسفة آخرين حيث اعتبروه تصورا مثاليا ومجردا، فمن منظور سوسيولوجي وضعي اعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم بأن الصفة الأساسية للفعل الأخلاقي هو الإلزام والاستجابة لماهو مرغوب فيه،فلا يمكن غض الطرف عن نتائج الفعل الأخلاقي، يقول دوركايم"يتعين أن تكون الغاية الأخلاقية التي نسعى إليها مرغوبا فيها بجانب كونها إلزاما أخلاقيا.فالصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام لكن صفته الثانية الملازمة هي كونه محط رغبة"كما أن نيتشه بدوره انتقد التصور الكانطي للواجب الأخلاقي لأنه متعالي عن الشروط الواقعية للحياة إذ أن ما ليس ضروريا لحياتنا يهدد الحياة بالانهيار.

02 ــ الوعي الأخلاقي:إذا كان القانون الأخلاقي حسب كانط هو الذي يضفي على الفعل الإنساني قيمة، فكيف يتم الوعي بالواجبات الأخلاقية؟وما مصدر هذا الوعي أهو العقل أم الغريزة أم المجتمع؟
لقد اعتبر التصور الفلسفي الكلاسيكي أن الوعي الذي يشكل ماهية الإنسان هو مصدر الفعل الأخلاقي، غير أنه ينبغي في هذا إطار التمييز بين الوعي بالمعنى الأخلاقي والوعي بالمعنى السيكولوجي. فالوعي بالمعنى السيكولوجي هو ذلك الحدس الذي بواسطته يعي الإنسان ذاته ويدرك العالم الخارجي،بينما يقصد بالوعي الأخلاقي قدرة الفكر على إصدار أحكام معيارية(قيمية) حول القيمة الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية أو المجتمعية، ومن خلال هذا الوعي يشعر الإنسان بمسؤوليته اتجاه أفعاله وأفعال الغير، هذا الوعي بالمفهوم الأخلاقي هو مايطلق عليه بالضمير الأخلاقي .فما هو أصل هذا الوعي؟ وما مصدره؟
إذا كان كانط قد أرجع الوعي الأخلاقي إلى العقل، فإن الفيلسوف الفرنسي ج.ج.روسو اعتبره متجدرا في الطبيعة الإنسانية،أي أنه فطري وغريزي نحس به يقودنا تلقائيا إلى التمييز بين الخير والشر، غير أن التأكيد على فطرية الوعي الأخلاقي يتجاهل العوامل والشروط التاريخية والموضوعية التي ساهمت في انبثاق هذا الوعي وعملت على تطويره.وفي هذا السياق فسر الفيلسوف نيتشه نشأة الوعي الأخلاقي بعوامل تاريخية وتجارية كالعلاقة التجارية الأولى بين الدائن والمدين،مع ما رافقها من قوة وعنف وانتقام
أدت إلى تشكيل تصوراتنا عن الخير والشر والواجب والضمير، وبارتباط مع هذا التصور ترى المادية التاريخية(الاتجاه الماركسي)بأن النظريات الأخلاقية ليست ثابتة وخالدة تعلو عن التاريخ لأنها تعبر عن شروط الوجود المادية والاجتماعية للأفراد و لأنها الأداة الإيديولوجية لسيطرة طبقة الأغنياء على الفقراء وتبرير الهيمنة والاستغلال،وبالتالي فالاستلاب الأخلاقي لا ينفصل عن أشكال الاستلاب الأخرى، كما أن القيم الأخلاقية تتغير وتتطور بتطور البنيات الاجتماعية والاقتصادية ومستوى وعي الأفراد.
وفي سياق البحث والتنقيب عن أصل الوعي يرى عالم النفس فرويد من منظوره السيكولوجي أن الوعي الأخلاقي أو الضمير يشكل جزءا ضمن البنية النفسية للفرد والتي تعمل على الحفاظ على تكيفه واندماجه مع منظومة القيم السائدة في مجتمعه ،بحيث يجسد الضمير الأخلاقي منظومة النواهي والممنوعات الثقافية (الطابوهات) التي تحافظ على التوازن النفسي للشخص من جهة أولى والتماسك الاجتماعي من جهة أخرى.

03 ــ الواجب والمجتمع.ما علاقة الضمير الأخلاقي الفردي بالمجتمع وبالضمير الجمعي؟
إن الأخلاق لا تنفصل عن العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، بل إنها توجد في قلب كل القيم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية الأخرى لذلك يرى دوركايم من منظوره السوسيولوجي أن المجتمع هو أساس كل سلطة أخلاقية باعتباره كيانا يعلو على سلطة الأفراد،لأن كل فعل لا يقره المجتمع على أنه أخلاقي لا يكسب صاحبه التقدير والاحترام،فالمجتمع بواسطة التنشئة الاجتماعية يرسخ في وعي أفراده ما ينبغي القيام به من واجبات،وما يلزم الابتعاد عنه من نواهي.وهو الذي يمنح لقواعد السلوك صفة الإكراه المميزة للإلزام. فضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع،ولا يعبر إلا عنه، وفي نفس الإطار يرى برغسون أن الأفراد يخضعون في سلوكاتهم لنظام المجتمع وسلطته بالرغم من أنه يظهر بأنه مؤلف من إرادات وحريات الأفراد، إنه في العمق نسق من الإكراهات التي يفرضها المجتمع إلا أنه يتوجب على الأفراد الانفتاح على الواجبات الكونية أي تلك التي ترتبط بالإنسانية جمعاء،من أجل تعزيز قيم السلم والتعايش، دون إغفال الواجبات تجاه أجيال المستقبل.

ليست هناك تعليقات: